اسماعيل عبد الله
الشقيقة اثيوبيا تخطو خطوة عملاقة نحو المستقبل الاقتصادي المشرق ، بتدشين انطلاق مشروع توليد الطاقة الكهربائية المائية من سدها النهضوي الجبّار ، غير مبالية برمادية مواقف الجار القريب والعراقيل التي يضعها الشريك البعيد، متجاوزة بيروقراطية المؤسسات الأممية غير ذات الفعل الصارم والجاد ، تزامناً مع صولة الدب الروسي المعلن عن تحديه للهيمنة الامبريالية الغربية، يبدو أننا قد دخلنا عصر المواجهات الكبرى وانجاز الطموحات العظمى للشعوب ذات الارادة ، اثيوبيا التي كانت ولوقت قريب يستظل لاجئوها تحت الخيام المنصوبة بمعسكرات الأمم المتحدة بشرق البلاد ، اليوم تعلن عن افتتاح مشروعها التنموي الكبير بينما بلادنا تنهشها أنياب المحاور الاقليمية وتغزوها سفن القوى الدولية ويرهنها السماسرة من بنيها العاقين غير البررة في اسواق المزادات العالمية ، برغم اجترار الذكريات الجميلة الحاكية عن تسيّد مشروع الجزيرة للساحة الاقتصادية الاقليمية ، ورغم حضور الراوية التي تحكي عن سيطرة صقور جديان الخطوط الجوية السودانية لسماء المنطقة.
قبلت انظمة الحكم السودانية المتعاقبة بلعب دور العربة المقطورة لا الرأس القاطرة ، يستبين ذلك في التصريحات الرسمية لممثلي الوزارات المختصة في ملفات الشئون الخارجية ، وفي شطحات الخبراء (الاستراتيجيين) المتحدثين عن الأمن والدفاع والناطقين الرسميين باسم الحكومة ، الذين تجيء تبريراتهم وتصريحاتهم الرمادية والفطيرة فارغة المحتوى وباهتة اللون ، لا تعكس متانة الخطاب الوطني الذي يجب أن يكون ، ذلك الخطاب المشحون بحماس العاطفة الوطنية الحادة كما هو ملاحظ لدى المدافعين عن شرف القيمة والجودة الوطنية من الشقيقة اثيوبيا والجارة الشمالية ، فعندما يستضاف ثلاثة ضيوف – سوداني – اثيوبي – مصري – في حوار تلفزيوني لتناول (أزمة) سد النهضة ، تأسى لحال الضيف السوداني المندغم في وجهة النظر المصرية ، ولا يوجد انسب مثال لهذا الاندغام غير الماراثون الانبطاحي لوزيرة الخارجية المستقيلة عندما ابتعثت لتمثيل البلاد في المؤتمرات المنعقدة بخصوص حلحلة (الأزمة)، هكذا يكفيك عنوان الدبلوماسية المسخرة لخدمة دبلوماسية أخرى دون حياء ولا خجل .
الازمة السودانية ازمة مركبة – سياسية – اجتماعية – ثقافية – تاريخية – لا تنفصل ركائزها الاربع عن بعضها ، في الجانب الاجتماعي لم تعمل الدولة السودانية الحديثة منذ نشأتها على وضع حدود فاصلة بين ما هو وطني وما هو اجنبي ، والطامة الكبرى في فتحها لأبواب البلاد على مصاريعها لدخول جميع ادوات الاستلاب الثقافي من الجار الشمالي ، ما ادى لخلق وجدان مشوّه لا يعي قيمة ممتلكاته الذاتية ، وأم الكوارث تجدها في بذر بذور كراهية الذات التاريخية من قبل الفرد والجماعة ، وعكس هذه التشوهات الاجتماعية والثقافية والتاريخية التي حاقت بنا ، تلاحظ ان جارينا العزيزين يتمتعان باعتداد قوي بهذه الذات الاجتماعية والثقافية والتاريخية ، واذا رغب المستقصي عن الحقيقة ادراك حقائق هذه الازمات السودانية المستحكمة ، ما عليه الا أن يسبر غور الثورات الشعبية المقبورة بأيدي بنيها ، وما يجري على ساحة الحكم وشئون ادارة الدولة هذه الايام يكفيك عناء البحث ، فقط انظر للصراع الحانق بين المكونات المتبنية لجنين الثورة .
السودانيون يتنافسون في الوفاء بتقديم فروض الولاء وموجبات الطاعة للغريب بشكل مريب ، تخيّل حجم الحملة السياسية الكيدية المستمرة التي اجبرت رئيس الوزراء على الاستقالة ، واستمتع بمشاهدة نفس الارجل التي سعت لحتف رئيس الحكومة تهرول نحو البساط الذي يمشي عليه السيد فولكر ، وتبذل الغالي والنفيس من أجل تقديم اوراق اعتمادها ، كيف ينهض السودان ومثل هذه التشوهات الخلقية والاخلاقية هي الواصفة لمن يقودون العمل العام ، لا يوجد توافق على مشاريع تنموية نهضوية مثل المشروع الاثيوبي العملاق ، فقط يوجد التفاف وتآمر حول ذلك الرجل الوطني الغيور الذي يجند نفسه فداءًا للوطن ، ويوجد تكبيل للأرجل وتقييد للأيدي لكل من يعلن عن مشروع يخدم البلاد ويرفع العباد ، فهل تكون الرواية التاريخية لابراهيم منعم منصور المنقولة عن حاكم عام السودان ورأيه عن السودانيين ، هي الروشتة المعالجة لأمراض الازمة الوطنية المزمنة؟؟.