هرر التاريخ الحضارة التعايش السلمي

 

 

ابرها حجوس

 

في إثيوبيا اليوم، يعرف اقليم هرر هي إحدى الاقليم  إثيوبيا ال11. وهي أصغر الاقليم الاثيوبية  من حيث السكان والمساحة، حيث تتكون من مدينة واحدة فقط، هي مدينة هرر التاريخية. ورغم صغر مساحتها وقلة عدد سكانها، ووقوعها داخل النطاق الجغرافي لاقليم أوروميا، فقد اعتُمدت كاقليم  مستقلة تتمتع بحكم ذاتي، وذلك لما لها من مميزات تاريخية، وبقيت حتى يومنا هذا شاهدة على عراقة الوجود الإسلامي الضارب في أطناب التاريخ في هذا الجزء من العالم.

تعد مدينة هرر الواقعة في شرق إثيوبيا مثالاً حياً للتعايش وقبول الآخر، إذ تحتضن المسلمين والمسيحيين جنباً إلى جنب مستندة إلى إرث ثقافي وحضاري عماده المحبة والسلام.

وتضم المدينة التي تأسست في القرن الـ7 الميلادي 90 مسجداً تشكل التجمع الأكبر للمساجد في البلاد، ويحيط بها سور يحتوي على بوابات في مختلف الجهات بنيت على الطراز المعماري الإسلامي كغيره من المباني المنتشرة في المدينة.

وكانت هرر مركزاً للتجارة ولعلماء المسلمين في منطقة القرن الإفريقي ولها عملتها الخاصة، وبعد 250 عامًا من الحكم الذاتي وفي عام 1887 خسرت المدينة استقلالها عندما شن الإمبراطور مينليك الثاني (أمير شيوا) الذي كان يحكم وسط البلاد، هجوماً عليها وأصبح فيما بعد إمبراطوراً لإثيوبيا عام 1889.

ويوثق الدكتور هاشم علي حامد قائلا :أكثر ما يشغل ذهن الزائر في مدينة هرر الإثيوبية التاريخية هو التحقق من رواية “الضباع المسالمة” القاطنة في الوديان والأحراش المحيطة بالمدينة، وإطعامها بيده، وهو ما يتيحه أهل المدينة لكل زوارهم. اشتهرت “هرر” بهذه الظاهرة، وما من زائر إلا وجازف مع تلك الضباع، فعلى الرغم من أنها ضباع جائعة ومتجمعة، فإن الزائرين يحضرون رفقة خبير محلي ليطعموها اللحوم من أيديهم.

تقع مدينة هرر في شرق إثيوبيا، على بعد 360 كيلومتراً جنوب غربي بربرا في واحة جبلية خضراء، على الطريق المؤدية إلى الإقليم الصومالي، وهو ذات الاتجاه إلى الصومالاند وجيبوتي. وتعد المدينة عاصمة إقليم هرر المكون من المدينة الأم وعدد من القرى المنتشرة حولها. وتقع المدينة على تل بارتفاع 1885 متراً، ويعتبر جزءاً من الهضبة الإثيوبية. وتبعد عن العاصمة أديس أبابا بنحو 500 كيلومتر. وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء، قدر إجمالي عدد سكانها في عام 2005، بما يزيد على 122.000 نسمة، وفي عام 2012 قدر عدد السكان بـ210.000 نسمة، من جملة تعداد سكان إثيوبيا البالغ 102 مليون نسمة.

وتشتهر المدينة بـ”البن الهرري” وهو أغلى أنواع البن يصدره التجار إلى بلدان عدة مثل “السعودية، وتركيا، وأميركا، وغيرها”، بعد تنظيفه وتعبئته كسلعة إستراتيجية تمثل دعامةً للاقتصاد الإثيوبي.

وتتميز هرر بمناخ معتدل ويكسوها غطاء نباتي وأشجار وزهور بألوان متباينة عبر مرتفعات ومنخفضات.

ويعود تاريخ المدينة إلى القرن العاشر الميلادي، حين اشتهرت كقبلة للعلماء المسلمين. دخلتها موجات من الهجرة العربية من العلماء والتلامذة، وأطلق عليها ألقاب مثل “مدينة الصالحين”، و”مدينة الأولياء”، وظلت واحدة من أهم منارات العلم ضمن المدن الإسلامية المعروفة كـ”المدينة المنورة، وبغداد، ودمشق”، خلال قرون ماضية.

وشكلت هرر مركزاً تجارياً يربط بين الطرق المقبلة من البحر الأحمر عبر الصومال (صومالاند) وبربرة، مع بقية المدن والبقاع الإثيوبية، ومثلت ضمن فترات التاريخ نقطةً مهمة في منطقة القرن الأفريقي.

يوثق تاريخ القرن الأفريقي المنطقة منذ امتداد بعيد من الزمان، كمركز تعايش لشعوب عدة بحكم الممرات المائية والمواقع المتشاطئة. كما عرفت منطقة القرن الأفريقي منذ القدم بتداخلها الجغرافي الذي يتمثل في محاذاة مياه عدن والبحر الأحمر، وهي رقعة جامعة لأهم دول المنطقة، إذ تضم “الصومال، وجيبوتي و”إثيوبيا الكبيرة” (إثيوبيا وإريتريا)، والسودان”، ومن الجهة المقابلة “اليمن، والجزيرة العربية”، حيث شكلت نقطة تفاعلات تاريخية منذ زمان بعيد، فكانت محط ممالك وحضارات وتعايش وتفاعل بين ثقافات متنوعة، إلى جانب صراع شبه متواصل في ظل التنافس السياسي والديني. وظلت هرر ضمن ذلك الواقع، منارةً للعلم وملتقىً للتجار والزائرين بعلمائها وآثارها، إلى حين ضُمت إلى الإمبراطورية الحبشية إبان عهد الإمبراطور منليك الثاني عام 1887.

سور جقال

من جهة أخرى، كان يحيط المدينة القديمة سور يمتد مغطياً جهاتها الأربع بطول 3348 كيلومتراً، وارتفاع 4 أمتار، وعلى مساحة تبلغ 48 هكتاراً. ويرجع تاريخ السور إلى القرن الثالث عشر ميلادي، وتتحدث الروايات عن اكتماله في عهد الأمير نوري (1559-1567). وللسور خمسة أبواب بمسميات عربية هي “باب النصر”، و”باب السلام”، و”باب بدر”، و”باب الرحمة”، و”باب البحر الأحمر”. ويربط أهل هرر الأبواب الخمس برمزية دالة على الصلوات الخمس المفروضة على المسلم. ويطلقون على السور اسم “جقال”. أما أبوابه فلا تزال باقية وآثارها واضحة المعالم، بينما تآكل بقية الأجزاء بفعل الزمان، ولم يبق منه إلا أطلال. وتحفظ تربة المدينة قبور العديد من العلماء المسلمين. ويقول مؤرخون إن “جدار المدينة الذي أسهم في بنائه عدد من السلاطين كان آخرهم الأمير نوري، حافظ على هوية المدينة وتقاليد أهلها المسلمين”.

وأدرجت منظمة اليونسكو مدينة هرر القديمة على قائمة التراث العالمي عام 2006. ووفقاً لليونسكو، فإن هرر تعتبر “رابع مدينة مقدسة بالنسبة إلى الإسلام بعد مكة المكرمة، والمدينة المنورة، والقدس. ويعود ذلك، إلى وجود 82 مسجداً تاريخياً فيها، ثلاثة منها تعود إلى القرن العاشر، إضافة إلى 102 من أضرحة العلماء”. ويزعم أهل المدينة أن ضريح الشيخ عبدالقادر الجيلاني أحدها.

وفي ضريح الشيخ أبادر الذي يتوسط المدينة قبة ومزار، يتمتع بإشراف محبيه الذين يحفظون ويعلمون الأطفال والدارسين القرآن والحديث. وتضم المدينة القديمة كذلك متحفاً يعرض تاريخاً حافلاً عبر أدوات ومخطوطات ونسخ من القرآن الكريم تعود إلى تاريخ قديم، لا يزال أهل هرر يحتفظون بها ويتوارثونها جيلاً بعد جيل.

وتعد مدينة هرر مركز الحياة الإسلامية التاريخية في إثيوبيا، وواحدة من أكثر المراكز النموذجية التي يعيش فيها المسلمون والمسيحيون على حد سواء في جو من الاحترام المتبادل.

متاحف المدينة

ويقول احد الرحالة : تحتوي المدينة حاليا أربعة متاحف متقاربة، وهي التي زرتها ـ وقد تكون أكثر ـ الأول هو الذي يملكه الرجل الهرري عبد الله علي شريف والثاني هو ذلك الذي أسسه الرحالة الفرنسي أرتيل رانبو والثالث يسمى المتحف الوطني والرابع يقع في المركز الهرري الثقافي. تحتوي هذه المتاحف الآثار القديمة لمدينة هرر. مثل الأواني التي كان يأكلون بها، والأحذية التي كانوا ينتعلوها، والسيوف التي كان يتدربون بها، وتلك الأخرى التي كانوا بها يقاتلون، وسيوف بعض الأمراء وملوك حبشة، وملابس الرجال والنساء، وحلي النساء باختلاف جنسياتهن، وغير ذلك من الآثار القديمة. ومن خلال تأملي فيها اتضح لي أن الموجود فيها متشابه إلا متحف رانبو الذي يحتوي صورا صورها هو بنفسه ليست موجودة في بقية المتاحف.

ويقول عبدالرحمن سليمان، أستاذ التاريخ في مدينة هرر، والذي عمل كنائب رئيس مجلس العلماء بالمجلس العالي للشؤون الإسلامية الإثيوبية: مر على المدينة 72 حكومة وانصهر فيها كل من وفد إليها، كما أن لديها لغتها وكتابتها وأشغالها اليدوية، ولا يمكن التعرف عليها إلا بزيارتها زيارة ميدانية للتعرف على إمكانياتها وظروفها المعيشية، لأنها تسع الجميع وهي أيضا حضارة قديمة.

ومن أهم عناصر الجذب السياحي الرئيسية للمدينة “رجل الضبع” الذي يغذي الضباع في الضواحي كل ليلة، وأصبح رمزاً لهرر من حيث المحبة والتعايش حتى مع الضباع.

Recommended For You

About the Author: Samaray Galagai

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *