المتخصص في شؤون القرن الافريقي عبد الباقي الاصبحي
تتجدد الدعوات في الأوساط السياسية والفكرية والقانونية داخل إثيوبيا وخارجها، بشأن أحقية إثيوبيا في الوصول إلى منفذ بحري، كضرورة استراتيجية لا يمكن تجاهلها. فقد مضى أكثر من ثلاثين عامًا منذ أن فقدت البلاد منفذها البحري إثر انفصال إريتريا، ما أجبرها على الاعتماد الحصري تقريبًا على موانئ دولة جيبوتي، مع ما يترتب على ذلك من تكاليف باهظة تفوق 1.6 مليار دولار سنويًا، وتهديد مباشر لأمنها الاقتصادي والاستراتيجي.
وفي هذا الإطار، يتعاظم الوعي الداخلي والدولي بكون مطالب إثيوبيا ليست طموحًا توسعيًا، ولا انتهاكًا لسيادة أي دولة، بل هي مطلب قانوني تؤيده المعاهدات الدولية، ورؤية استراتيجية تنبع من حق أصيل تضمنه القوانين والأعراف الدولية.
القانون الدولي إلى جانب إثيوبيا
بحسب السفير غريغور شوسترشيتز، المستشار القانوني وأستاذ القانون الدولي، فإن المادة 25 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار تنص صراحة على أن للدول غير الساحلية حقًا في الوصول إلى البحر واستخدام موانئ الدول الساحلية المجاورة عبر اتفاقيات ثنائية عادلة. ولا يجب أن تكون هذه الاتفاقيات مشروطة أو مُجحفة، بل قائمة على مبادئ الإنصاف والتعاون المتبادل.
ويؤكد السفير شوسترشيتز أن اعتماد إثيوبيا على منفذ واحد فقط عبر جيبوتي يعرّض أمنها اللوجستي والاقتصادي للخطر، ويقوّض حقها في التنويع والاستقلالية. ومن هذا المنطلق، فإن من واجب الدول الساحلية المجاورة – وبالتعاون مع المجتمع الدولي – دعم حل عادل ومستدام لهذا التحدي، يراعي مصالح الجميع ويعزز التكامل الإقليمي.
الأبعاد الاستراتيجية والجيوسياسية
إثيوبيا، الدولة الأكثر سكانًا في القرن الإفريقي بـ135 مليون نسمة، تقف في قلب التحولات الجيوسياسية في المنطقة. ويشير البروفيسور آدم كامل إلى أن لإثيوبيا ارتباطات تاريخية وثقافية عميقة مع العالم العربي ودول الخليج، لا سيما في الدين واللغة والموقع الجغرافي، ما يجعل من اندماجها الاقتصادي مع هذه الدول أمرًا طبيعيًا وضروريًا.
القرن الإفريقي، الذي يمتد من البحر الأحمر إلى المحيط الهندي، يشكل ممرًا حيويًا للتجارة العالمية وأمن الطاقة، وهو ما يُبرز أهمية أن تكون إثيوبيا شريكًا فاعلًا ومؤثرًا في ضمان أمن واستقرار هذا الممر، لا أن تكون مُستبعدة من معادلاته بسبب غياب منفذ بحري.
المنفذ البحري: ركيزة للأمن والسلام والتنمية
رئيس الوزراء الإثيوبي الدكتور آبي أحمد أكد مرارًا على أن موضوع الوصول إلى البحر بالنسبة لإثيوبيا ليس ترفًا سياسيًا، بل “مسألة وجودية” ترتبط مباشرة بالأمن القومي والتنمية المستدامة. وفي ذات السياق، يرى الدكتور هينوك سيوم، المحاضر في جامعة الخدمة المدنية، أن إثيوبيا تحترم سيادة الدول، لكنها في الوقت ذاته تطالب بحق مشروع يضمن لها فرص التجارة الحرة، ويعزز قدرتها على الاندماج في السوق الإقليمية.
ويضيف الدكتور هينوك أن إثيوبيا لا تسعى إلى السيطرة أو فرض الأمر الواقع، بل إلى اتفاق عادل يتيح لها استخدام البحر في إطار القانون الدولي. وهي بذلك تنضم إلى قائمة طويلة من الدول غير الساحلية التي توصلت إلى حلول قانونية عادلة لضمان حقوقها البحرية، مثل النمسا وسويسرا وسلوفاكيا، دون أن تضر بسيادة الدول الساحلية.
فرص اقتصادية هائلة تنتظر التفعيل
إن الموقع الجغرافي لإثيوبيا، وتنوع مناخها، ووفرة مواردها الزراعية، كلها عوامل تجعلها شريكًا مثاليًا لدول الخليج العربي. كما أن ازدياد الطلب الخليجي على الغذاء والطاقة المتجددة والمنتجات الزراعية، يوفر فرصة استراتيجية لإثيوبيا لتكون أحد أكبر موردي هذه الاحتياجات. ويشير العديد من الباحثين إلى أن إثيوبيا قادرة على إنتاج أكثر من 140 نوعًا من المحاصيل المطلوبة في الأسواق الخليجية.
وفي هذا الصدد، قال أحد المسؤولين الخليجيين: “إثيوبيا هي الجنة المنسية”، في إشارة إلى إمكانياتها الكبيرة غير المستغلة. فبدلًا من أن تكون عبئًا إقليميًا، يمكن لإثيوبيا أن تصبح مركزًا اقتصاديًا متكاملًا يخدم مصالح الجميع، إذا أُتيح لها الوصول الكامل إلى البحر وحرية الحركة التجارية.
البحر الأحمر: بين الأمن والتعاون الإقليمي
إن أمن البحر الأحمر ليس مسؤولية دولة واحدة، بل مسؤولية جماعية تشمل دول الخليج والقرن الإفريقي على السواء. وقد نبه السفير سعد النعيم إلى أن استقرار إثيوبيا يعادل استقرار القرن الإفريقي، وأن أي اضطراب فيها سينعكس على المنطقة بأسرها. فالأمن البحري في البحر الأحمر وخليج عدن يتطلب شراكة استراتيجية تشمل التعاون الاقتصادي والأمني مع إثيوبيا، التي تمثل عمقًا حيويًا لهذه المنظومة.
كما أن القضايا الأمنية، مثل الصراع في غزة وعدم الاستقرار في بعض الدول الساحلية، تُظهر هشاشة الوضع الإقليمي، وتبرز حاجة الدول إلى تحالفات وشراكات قائمة على الثقة والمصالح المتبادلة، لا على العزلة والإقصاء.
نحو حل سلمي وعادل
ختامًا، فإن الطريق نحو البحر ليس طريقًا نحو التصعيد، بل دعوة إلى العدالة والتعاون. إثيوبيا لا تطالب بأكثر من حقها المشروع، وفق القانون الدولي، ووفق مبادئ حسن الجوار والتكامل الإقليمي. وهي، بما تملكه من رؤية سلمية واستعداد للشراكة، تُثبت للعالم أنها تسعى إلى بناء منظومة إقليمية مزدهرة وآمنة، يكون فيها البحر أداةً للتنمية، لا نقطةً للنزاع.
إن السماح لإثيوبيا بالوصول إلى البحر ليس فقط قرارًا قانونيًا وإنسانيًا، بل خطوة استراتيجية نحو استقرار أوسع في منطقة شديدة الأهمية للعالم بأسره.