عمر حاجي
إن نهر النيل لا يعد أطول نهر في العالم فحسب، بل إنه يعد أيضًا أحد أكثر الأنهار تسييسًا. ولم يكن سوى عدد قليل جدًا من الأنهار موضوعًا للمناقشة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والمنظمة العالمية الأولى المسؤولة عن الحفاظ على السلام والأمن الدوليين. وغالبًا ما تتسم الجهود المبذولة في العقود الأخيرة لتحقيق تقاسم عادل ومتناغم للمياه بين الدول المشاطئة بالخداع والجشع والتوترات القائمة على المطالبات التاريخية والمناورات الجيوسياسية.
ولكن فإن سحابة الأمل كانت تختمر فوق النيل منذ يوليو من هذا العام. ويبدو أن المحادثات المستقبلية بشأن النيل تركز بشكل أكبر على الاقتصاد والحفاظ على البيئة، والانتقال من المواجهة إلى التعاون، ومن التهديدات بالحرب إلى مقترحات الاستثمار عبر الحدود. وفي قلب التطورات الأخيرة، والتقدم الذي أحرزته اتفاقية الإطار التعاوني لحوض نهر النيل هي مبادرة تعد بتغيير جذري. وبعد أن ظل الاتفاق معلقًا على الطاولة لأكثر من أربعة عشر عامًا في انتظار الامتثال، تم إقراره أخيرًا في 13 أكتوبر 2024، مما يمثل تحولًا حاسمًا في حوكمة مياه النيل.
وأن أكثر من أربعة أخماس مياه النيل تأتي من نهر أباي الإثيوبي المهيب. وهذا يعني أن مصدر النيل هو في الأساس مصدر أباي.- ومن المحير تمامًا لماذا يشير العديد من الكتاب والعلماء ووكالات الأنباء مثل رويترز بشكل خاطئ إلى أوغندا كمصدر للنيل- وأكتوبر هو الوقت الأمثل من العام عندما يمكن للسياح الباحثين عن الإثارة تجربة قوة وروعة نهر أباي من خلال الوقوف على حافة الشلال حيث يمتلئ الهواء بزئير صاخب وضباب ورذاذ مياه أباي. وقد ظهر مؤخرًا شيء آخر يربط النيل ارتباطًا وثيقًا بشهر أكتوبر. وهو ما حدث في 13 أكتوبر من الشهر الماضي. حيث يحتل هذا اليوم مكانة خاصة في تقويم دول حوض النيل العليا. وإنه يوم يمثل اختراقًا في سعيهم المستمر منذ عقود من أجل العدالة لضمان حقوقهم في حصة عادلة من أهم مواردهم الطبيعية، من حوض النيل.
ومما لا شك فيه، أن إثيوبيا كانت دائمًا الطرف الفاعل في طليعة النضال الدبلوماسي لجعل ما حدث في 13 أكتوبر حقيقة واقعية، ولم يكن سوى رئيس الوزراء الإثيوبي، أبي أحمد، هو من حطم خبر اليوم الكبير للعالم أجمع. و13 من أكتوبر 2024، يمثل تتويجًا لرحلة طويلة نحو الاستخدام العادل والمعقول لمياه النيل، مع دخول اتفاقية إطار حوض نهر النيل حيز التنفيذ. وسيُذكر هذا اليوم باعتباره معلمًا تاريخيًا في جهودنا الجماعية لتعزيز التعاون الحقيقي في حوض النيل. وإن دخول اتفاقية إطار حوض النيل حيز التنفيذ يعزز رابطتنا كعائلة نيلية، ويضمن أن إدارة واستغلال مواردنا المائية المشتركة تعود بالنفع لصالح الجميع. وتمثل اتفاقية الإطار التعاوني جهدًا متعدد الأطراف من جانب دول حوض النيل لإنشاء إطار مستدام وشامل لإدارة موارد النهر والاستفادة منها.
وقد ولدت هذه الاتفاقية الرائدة من الضرورة، بهدف إرساء أساس قانوني ومؤسسي لمنع الصراعات وتعزيز الاستخدام العادل لمياه النيل. ولا يتمثل هدف اتفاقية الإطار التعاوني في مجرد تقاسم نهر سلمي، بل إنه يشكل الأساس لعصر جديد من التعاون بين البلدان ذات المصالح المتباينة والمتضاربة تاريخيًا. ومن أهم ما يميز اتفاقية الإطار التعاوني هو الإطلاق المخطط له لمفوضية حوض نهر النيل. ومن المتصور أن تكون هذه المفوضية مؤسسة أساسية تشرف على الإدارة العادلة والمستدامة للنهر، مما يضمن لجميع البلدان الموقعة أن يكون لها رأي في إدارته. ومع ذلك، فقد خفت حدة الزخم بسبب تأجيل القمة الثانية لرؤساء دول وحكومات حوض نهر النيل والتي كان من المقرر عقدها في 17 أكتوبر 2024. وكانت إشارة إلى تعقيد وطبيعة السياسة المتعلقة بالنيل. ولنأمل في أن لا يكون للمصريين يد في السبب غير المعلن لتأجيل القمة، وهو أمر مستبعد للغاية. كما نتذكر أيضاً، الاتفاقية العسكرية المصرية الأوغندية التي وقعت قبل ثلاث سنوات في كمبالا. ولا شك أن هذه الاتفاقية ستجلب العديد من الفوائد المغرية لسلطات كمبالا.
ومن الواضح أن دول حوض النيل ليست كلها متفقة. فقد كانت مصر والسودان صريحتين في معارضتهما، وتمسكتا بمطالباتهما التاريخية بمياه النهر. وتزعم هذه الدول أن المفوضية تفتقر إلى الشرعية، حيث تنظر إلى الاتفاقية الحالية على أنها غير مكتملة ولم يتم التصديق عليها بشكل كاف. وترجع محاولاتها العبثية لنزع الشرعية عن المفوضية إلى رغبتها الأنانية العتيقة في الحفاظ على الهيمنة المائية في حوض النيل. وقد تبلورت المقاومة من جانب مصر والسودان في بيان صادر عن اللجنة الفنية المشتركة الدائمة المصرية السودانية، والذي صدر قبل يوم واحد من الإعلان عن تفعيل اتفاقية الإطار التعاوني. وفي بيانها، رفضت اللجنة الفنية المشتركة الدائمة المصرية السودانية بشكل قاطع شرعية مفوضية حوض النيل التي قالت: إنه يتألف من ست دول فقط من دول النيل.
ويؤكد الخبراء القانونيون الذين يفسرون موقف المفوضية الفنية المشتركة الدائمة، أن هذا اتهام لا أساس له من الصحة وليس له أساس قانوني، حيث استوفت لجنة حوض النيل جميع المتطلبات الأساسية المنصوص عليها في وثيقة اتفاقية الإطار التعاوني. كما تحاول الفوضية الفنية المشتركة الدائمة تقويض اتفاقية الإطار التعاوني باعتبارها غير مكتملة، مما يعني وجود المادة الفرعية المثيرة للجدل 14ب، تحت عنوان الأمن المائي، والتي تُركت فارغة في الوثيقة. وقد تجاهلوا عمدًا الملحق في وثيقة اتفاقية الإطار التعاوني الذي يتناول المادة الفرعية الفارغة بشكل كافٍ.
ويذكر أنه سيتم حلها من قبل مجلس حوض النيل في غضون ستة أشهر من إنشائها. إن السودانيين والمصريين يبحثون بشكل يائس عن ذرائع لرفض المفوضية، حيث أنهم متمسكون بمواقف جيوسياسية تعكس مخاوف من تراجع السيطرة والنفوذ على النيل. وأن مطالبات مصر والسودان بمياه النيل تتشكل من خلال المعاهدات التي وقعتها كل منهما مع الأخرى مع أسيادها الاستعماريين التي تقسم كامل حجم مياه النيل بين البلدين باستثناء الدول التسعة الأخرى وكأنها غير موجودة. ولكن الآن، فإن تفعيل اتفاقية الإطار التعاوني يعطل هذا الوضع الراهن، مما يجبر مصر على إعادة النظر في نهجها في إدارة المياه والدبلوماسية الخارجية في سياق حوض النيل.
ولذا يجب أن يتحلى المصريون والسودانيون بالشجاعة لمواجهة الواقع الجديد المتمثل في أن سياسة النيل دخلت عصرًا جديدًا من التعاون بدلاً من المنافسة، وأن مستقبل النيل سيتم تحديده وتشكيله من قبل منظمة متعددة الجنسيات، وهي مجلس حوض النيل. ولا يمكنهم أن يحجبوا مكانة وصوت هذه الهيئة الإقليمية في الساحة العالمية، على عكس ما فعلوه بشكل منفصل مع دول حوض النيل الأخرى. ولم يعد النيل حكراً على قِلة من الناس، بل ستستفيد منه كل الدول المطلة على النيل. وأن أوغندا، التي تتولى حالياً قيادة مبادرة حوض النيل لابد أن تلعب دوراً محورياً في توجيه هذا التغيير التاريخي. وباعتبارها الزعيم الحالي والمضيف للقمة المقبلة، فلابد أن تضمن إطلاق اللجنة دون مزيد من التأخير وأن تعمل كمحرك للتعاون.
ويبدو أن الدور القيادي الذي تضطلع به أوغندا يقع في منتصف الطيف الواسع من المصالح المتضاربة لدول النيل، وبالتالي فهو يشكل أهمية بالغة في الإبحار عبر هذه المياه العكرة. ومن شأن تأجيل القمة إلى العام المقبل أن يمنح الرئيس الأوغندي الوقت الكافي لتوضيح المصريين والسودانيين، وأنهم لا يستطيعون تحمل استبعادهم من اللجنة الجديدة التي سيتم إنشاؤها من خلال الإجراءات القانونية اللازمة التي تشمل المفوضية السياسية للقارة، والاتحاد الأفريقي.
كما ورد في اتفاق تأسيسها، اتفاقية الإطار التعاوني، فمن المتوقع أن تكون المفوضية سلطة قوية في الأمور المتعلقة بالقضايا المؤقتة لحوض النيل في مجالات السياسة والمالية والتكنولوجيا. وأن لجنة حوض نهر النيل سوف تمتلك مجموعة واسعة من القدرات، بما في ذلك حل النزاعات، ووضع القواعد، وجمع البيانات وإدارتها، وتحديد القياسات المثلى لاستخدام المياه، وغير ذلك. وبالتالي، فإن مفوضية حوض نهر النيل سوف تكون قوية بما يكفي لتعزيز وتنسيق التعاون بين دول الحوض بشكل فعال لضمان الحكم المستدام والجيد لموارد حوض النيل.
كما أن الآثار المترتبة على اتفاقية الإطار التعاوني على التعاون الإقليمي وإدارة المياه عميقة. فمن خلال تمهيد الطريق لآلية جماعية تسمح بحصص متساوية من المياه لجميع الدول المشاطئة، تسعى الاتفاقية إلى تهدئة التوترات وتشجيع التنمية التعاونية، وهي بمثابة مخطط لتحويل نقاط الاشتعال المحتملة إلى فرص للنمو المتبادل. ولقد تغيرت سياسات نهر النيل بشكل لا رجعة فيه. والآن يتم إعادة تعريف السيطرة المهيمنة التي كانت تمارسها الدول المشاطئة السفلى وخاصة مصر. ومع دخول اتفاقية الإطار التعاوني حيز التنفيذ، وتحولت ديناميكيات القوة بشكل دائم.
والآن أصبحت الزعامة الجماعية لدول النيل هي التي تملي الاستخدام المستقبلي للنهر. وأن مصر التي أصابها الإحباط من فكرة الحقوق التاريخية، تواجه الآن حقيقة لا مفر منها التي تتمثل في التقاسم العادل للمياه مع دول المنبع، والانضمام إلى أسرة النيل والتي ليست خياراً، بل أصبحت ضرورة حتمية.
وهكذا، فإن مستقبل التعاون بين دول حوض النيل يتوقف على إدراك حقيقة مفادها أن الحكم الجماعي وإدارة الموارد المشتركة ليست مجرد مسارات للسلام، بل هي شريان حياة أساسي في عصر تغير المناخ وعدم الاستقرار الإقليمي الذي تفاقم بسبب تدخل القوى العالمية. كما أن تفعيل اتفاقية الإطار التعاوني ليس نهاية المطاف، بل هو مجرد بداية لرحلة صعبة. وبالنسبة لجميع دول حوض النيل فإن الطريق إلى الأمام يكمن في الحوار والتسوية والالتزام بالازدهار المشترك. وقد انتهى عصر الهيمنة الأحادية الجانب على حوض النيل، وبدأ عصر التعاون للتو.