ياسين احمد رئيس المعهد الاثيوبي للدبلوماسية
ظلت اتفاقات التعاون بين الدول في مختلف المجالات أمر طبيعي ومهم ، ضمن إطار النظرة الإستراتيجية وتعزيز مصالحها ، وإن أختلفت في المسار العسكري والأمني قليلا ، لما تشتمل عليه من مخاطر وبعض التعقيدات لكن حتى هذه لم تكن بالحدة التي أفرزتها إتفاقية التعاون العسكري بين الصومال ومصر في أغسطس المنصرم ، والتي أحدثت ضجة وردود أفعال ولا تزال ، كما أن الاتفاقية تأتي بعد توقيع اتفاق تعاون بين الحكومة الإثيوبية وأرض الصومال مطلع العام الجاري ، مرتبط بذات الإتفاق بطريقة أو أخرى ، لكنه يحمل منطلقات وردود أفعال تعزز التعاون والتكامل في منطقة القرن الأفريقي بخلاف التعاون العسكري الموقع بين القاهرة ومقديشو الذي أشعل صراع غير مرئ بين العرب والأفارقة ويهدد أمن منطقة القرن الأفريقي كما أفصحت عنه الخارجية الإثيوبية في تنبيهات للإتحاد الأفريقي والجهات الفاعلة بهذه المخاطر .
حماية مصالح تواجه باستفسارات
وتكشف التحركات المصرية التي تأتي بغطاءحماية المصالح العربية المتمثلة في حماية الصومال عن قصور واضح في رؤية القاهرة، ففي الوقت الذي تتحرك فيه مصر في قضايا الأمة العربية بعيدا في أقصى الشرق الأفريقي ، تنسى أو تتناسى دورها العربي في الدائرة المحيطة بها والمتمثل في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ،وهي القضية الأولى والأقرب للقاهرة والتي ينبغي أن يكون لها فيها دور فاعل وعاجل بدلا عن الهرولة في منطقة القرن الأفريقي وحماية الصومال كما تزعم ، خاصة وأن التهديدات الأمنية التي تواجه الصومال لم تكن وليدة اللحظة فمن الطبيعي أن توجه أسئلة نحو القاهرة أين كان دورها هذا منذ أن فقدت الصومال أمنها وإستقرارها بسبب تهديدات حركة الشباب الصومالية ، وهذا يكشف بوضوح أن التحرك المصري لحماية الصومال ما هو ذريعة مصرية بعيدة عن حماية الصومال وأمنها .
وحتى لو أفترضنا جدلا أن النوايا المصرية في التصدي لحماية الصومال حقيقية ، فيحق لنا أيضا أن نتسائل عن الدور المصري في السودان وليبيا ، فإذا كانت القاهرة فشلت في حماية الشعب الفلسطيني الذي يتعرض للنزوح فكيف ستنجح في تعزيز الأمن والاستقرار والسلام في الصومال التي تبعد عنها آلاف الأميال ، وهو ما يعري حقيقة أن مصر تنطلق من دوافع خفية على الصومال ، وجلية لدى إثيوبيا أوضحته في البيان .
بات الكل يعلم بأن اتفاق الدفاع الموقع بين مصر والصومال ، فتح باب للصراع بين العرب والأفارقة بعد أن بررت القاهرة بأن خطوتها تأتي دفاعا وحماية للمصالح العربية المتمثلة في حماية الصومال الذي يواجه منذ أكثر من عقدين ذات التحديات الأمنية التي تتحدث عنها القاهرة اليوم ، كما ادى الإتفاق إلى تفاقم الوضع الهش بالفعل في منطقة القرن الأفريقي ، وهو ما اقلق إثيوبيا بشكل خاص ليس لأنه يأتي في محيطها وإنما كونها دولة ذات حضور وظلت تعمل في حماية المنطقة التي تنبري القاهرة اليوم لحمايتها .
نظرة استراتيجية لكسب نفوذ
والجدية المصرية التي تتمثل في سرعة وصول طائراتها العسكرية إلى مقديشو كبداية للإتفاق الموقع بين البلدين ، ما هو إلا نظرة استراتيجية من جانب مصر لكسب النفوذ في نزاعها المستمر مع إثيوبيا بشأن سد النهضة الإثيوبي ، وهي حسابات مصرية تسعى من خلالها للاستفادة من الصومال والهيمنة على النيل ، والكل بات يعرف أيضا أن العلاقات العسكرية بين مصر والصومال هي أكثر من مجرد استجابة لمخاوف الأمن الإقليمي؛ وإنها خطوة مصرية محسوبة لممارسة الضغط على إثيوبيا في نزاع النيل ردت عليها إثيوبيا بوضوع ودونما تردد بأنها نوايا معروفة ولا تحتاج الى تبريرات من شاكلة الأمن الأقليمي أو حماية المصالح العربية للصومال كواحد من دول الكتلة العربية .
وما عاد هذا الشعار ينطلي على المجتمعات الأفريقية في المنطقة التي ظلت تدافع عن أمن وسلامة الصومال كأحدى أهم دول منطقة القرن الأفريقي ورؤية ودور إثيوبيا في هذا المضمار معروفة لدى الشعب الصومالي وحكوماته المتعاقبة التي ظلت تجد الحماية والعون من إثيوبيا أكثر من مصر التي ظلت غائبة على مدى العقود الماضية من هذه المهمة والدور الذي تدعيه اليوم .
مع الأخذ في الإعتبار أن إثيوبيا كانت تاريخيًا لاعباً رئيسياً في الصومال، وخاصة في القتال ضد مسلحي حركة الشباب ، وإن وجود القوات المصرية بالقرب من حدودها ليس فقط تهديدًا أمنيًا مباشرًا ولكنه أيضًا عامل محتمل لزعزعة الاستقرار في منطقة مليئة بالصراعات بالفعل.
سد النهضة هاجس غير مبرر
وحتى مشروع سد النهضة الإثيوبي الذي ظل يمثل هاجسا لمصر ، وجعلت منه مصدرًا لصراع دبلوماسي ، جراء مخاوف مصرية غير موجودة في الواقع ، وأن السد سيقلل بشكل كبير من حصتها من مياه النيل، هذه جميعها تستخدمها القاهرة أدوات سياسية للداخل المصري ولا تحمل لها رؤية حقيقة لمعالجتها كما هو مطلوب ، خاصة وأن الحلول تكمن في التعاون والجلوس مع إثيوبيا وليس بالمناورات السياسية والضغوط الدبلوماسية .
وترى إثيوبيا أن الخطوة المصرية غير موفقة ، بل مثيرة للقلق نظرًا للطبيعة المتقلبة للمنطقة والتقاطعات الإثنية التي سيصبح الوجود العسكري غير المبرر فيها مصدر لبؤرة صراع لا يحمد عقباه ، وإثيوبيا أدرى من مصر بمثل هكذا مآلات وعواقب وهو ما أشارت إليه إثيوبيا في بيانها التنبيهي للإتحاد الأفريقي وهو ما يدل على نظرة إقليمية من الجانب الإثيوبي وليست مخاوف على أمنها الداخلي كما يفسر الآخرين وإن كان هذا أيضا موجود فتهديدات المنطقة المحيطة بلا شك هي تحديدات للدولة نفسها ، لكن إثيوبيا واضحة جدا أنها قدمت المخاوف الإقليمية على المحلية وهو ما ظلت تتميز به السياسة الإثيوبية كدولة فاعلة في الإقليم والقارة بخلاف الدول التي تتحرك في إطار مصالحها أولا دون النظر لما يترتب على الإقليم
القاهرة ومقديشو
يعتبر اتفاق الدفاع بين مصر والصومال تطورًا له ما بعده في الجغرافيا السياسية لمنطقة القرن الأفريقي، وله آثار بعيدة المدى على الاستقرار الإقليمي ، وقد تنظر مصر إلى التحالف باعتباره إجراءً استراتيجيًا مضادًا لسد النهضة الإثيوبي، فإن الواقع هو أن هذا الاتفاق يخاطر بزعزعة استقرار المنطقة وتقويض مبادئ القانون الدولي، وخاصة تلك المتعلقة بسيادة الدولة والاستخدام العادل للموارد المشتركة.
ما بين تحركات القاهرة وبيان اديس ابابا
وإذا ما تطرقنا الى مخاوف مصر في حصتها من مياه النيل ، ودعواتها المتكررة مبدأ الاستخدام العادل والمعقول للمجاري المائية المشتركة ، يستند حق إثيوبيا أيضا في استخدام النيل الأزرق لسد النهضة إلى هذا المبدأ ، وهو مبدأ راسخ في القانون الدولي، منصوص عليه في اتفاقية الأمم المتحدة للمجاري المائية ، لكن يبدو مصر ذهبت بعيدا من خلال محاولاتها لعسكرة استجابتها لسد النهضة من خلال تحالفات تعد انتهاك لحقوق إثيوبيا السيادية، حيث تسعى إلى الضغط على إثيوبيا لتقديم تنازلات قد لا تتوافق مع احتياجاتها التنموية ، لذلك جاء رد إثيوبيا على الاتفاقية متجذر في مخاوف مشروعة بشأن أمنها القومي واستقرارها الإقليمي.
وأشارت الحكومة الإثيوبية بوضوح من أن هذا التحالف قد يقوض التقدم المحرز في استقرار الصومال وقد يؤدي إلى زيادة التوترات بين إثيوبيا والصومال، وهما دولتان تربطهما علاقات تاريخية ومصالح مشتركة ، وإن تورط مصر في هذه البيئة التي لا تعرف تفاصيلها كما تعرفه إثيوبيا قد يؤدي إلى صراع أوسع نطاقًا مع عواقب وخيمة محتملة على المنطقة ، وهنا يطل سؤال مهمة يوجه للصومال حول دخولها في تحالف عسكري مع مصر تساؤلات حول ما إذا كانت هذه الخطوة تخدم مصالحها الوطنية حقًا أم أنها تضع الصومال كبيادق في استراتيجية مصر الجيوسياسية الأوسع ، على الرغم من أن الحكومة الصومالية تزعم أن الاتفاق يعزز قدراتها الدفاعية، وخاصة ضد الإرهاب، فإن العواقب طويلة المدى قد تكون ضارة بسيادة الصومال وعلاقاتها مع الدول المجاورة، وخاصة إثيوبيا.
ويجب على المجتمع الدولي أن يدرك إمكانية أن يؤدي هذا التحالف إلى إشعال المزيد من الصراعات في منطقة لا تستطيع تحمل المزيد من عدم الاستقرار ، وإن التمسك بمبادئ السيادة وعدم التدخل والاستخدام العادل للموارد أمر بالغ الأهمية في التعامل مع الجغرافيا السياسية المعقدة لحوض النيل وضمان احترام مصالح جميع الدول، وخاصة الدول الأكثر ضعفًا.
خطوة اثيوبيا اكثر مرونة
وبالنظر الى كل تلك التعقيدات في الخطوة التي أقدمت عليها مصر مع الصومال ، نجد ان الصفقة الأخيرة بين إثيوبيا وأرض الصومال، في يناير الماضي، ويمنح إثيوبيا الوصول إلى ميناء على البحر الأحمر من خلال استئجار شريط ساحلي بطول 20 كيلومترا مقابل اعترافها بالإقليم دولة مستقلة ، هي الصفقة الاكثر مرونة من سابقتها حيث تتضمن فوائد عديدة للجانبين فيما تقل أضرارها على المنطقة خاصة وأنها تعززت بتبادل المصالح بينهما ، كما انها لم تكن فيها أي أجندة خفية بين الطرفين فليس هناك أي طرف يحمل أجندة لا يعلمها الطرف الآخر وهو المزية لم تكن متوفرة في الإتفاق العسكري بين الصومال ومصر حيث تحمل الأخيرة أجندات لا يستفيد منه الصومال أصلا بل تزعزع امنه .
ومن أبرز ما تمخض عنه هذا الإتفاق ، في أن دول الجوار الإثيوبي خاصة جيبوتي تقدم بمقترح يمنح إثيوبيا ميناء على الساحل الجيبوتي ، وهي خطوة تحسب لجيبوتي في أنها تسهم في إنهاء التوترات كونها تقود منظمة الإيغاد وأيضا تضمن وجود إثيوبيا الإستثماري على شواطئها حيث ظلت إثيوبيا تعتمد على الموانئ الجيبوتية في صادرها وواردها وهو ما أفاد جيبوتي كثيرا .
اثيوبيا وارض الصومال
ومن فوائد الإتفاق الإثيوبي مع أرض الصومال ، نجد ايضا أنه حرك الجهود الإقليمية والمحلية ، المقترح الجيبوتي المقدم لإثيوبيا لم يكن هو الخطوة الوحيدة في هذا الصدد ، فهناك الوساطة التركية بين إثيوبيا والصومال من أجل تسوية النزاع الذي أثاره الاتفاق بين أديس أبابا وهرغيسا، ومن المقرر عقد جولة محادثات ثانية بين الطرفين في سبتمبر الجاري .
وأن هذه المبادرات التي تتوالى وجهود الوساطة من قبل الدول الفاعلة ، جميعها تؤكد على أن الخطوة التي أقدمت عليها إثيوبيا مع أرض الصومال كانت خطوة إيجابية وضرورية ، ومعروف أن إثيوبيا لو أتيحت لها الحلول والمبادرات من بعض الدول في القرن الأفريقي المطلة على البحر الأحمر التي تأتي اليوم ، لما كانت أقدمت على توقيع مذكرة التفاهم مع أرض الصومال ، وأن العرض الجيبوتي لأثيوبيا بمنفذ بحري يعتبر نتائج مذكرة التفاهم الأخيرة بين إثيوبيا وأرض الصومال
حلول افريقية لمشكلات أفريقية
وبالعودة الى اتفاق التعاون الدفاعي بين القاهرة ومقديشو ، كل ذلك يدفعنا أن نقول لمصر الدولة الكبيرة أن تبعد نفسها عن تبني سياسيات تغذية الصراعات بين دول القرن الإفريقي ، وتعمل على حل الخلافات مع اثيوبيا بتعزيز التعاون والتكامل والتنمية الاقتصادية الاقليمية لتحقيق المصالح المشتركة بينهما على اساس تقاسم المكاسب والريادة في قيادة وزعامة أفريقيا من خلال تطبيق شعار الاتحاد الافريقي “حلول افريقية لمشكلات أفريقية” وإسكات البنادق والمساهمة في تحقيق الرؤية الأفريقية لعام 2063.
خاصة وان مصر تحظى بتقدير واحترام كبيرين من الشعب الاثيوبي والدولة الاثيوبية لما يربط البلدين والشعبين الشقيقين من روابط تاريخية واجتماعية وثقافية واقتصادية ومياه النيل كموارد طبيعية مشتركة تسهم في تعزيز الأمن المائي الاقليمي و يفتح فضاءات ومجالات جديدة لمزيد من التعاون على مستوى أفريقيا والعالم العربي .