الحوار الوطني الاثيوبي.. نظرة في الاختلالات التاريخية

(حقبة تأسيس الكيان السياسي)

الكاتب : علي عمر

تعتبر عملية الحوار الوطني المزمع انطلاقها قريبا، سابقة في تاريخ إثيوبيا، لذا من الأهمية بمكان، تبيان طبيعتها وعوامل نجاحها وفشلها، وهو ما سأتطرق اليه بالتفصيل لاحقا ، بعد الاجابة على هذا السؤال :

(لماذا هذا الحوار من الأساس)؟؟

وهو سؤال مهيب لاريب في ذلك، مع افتراض أن مجرد التجاسر في طرحه ، كفيل بالحديث حول ضرورياته، كما قال الروائي الزنجي المعروف “لانغستون هيوز” بان الحوار هو لمعالجة الجروح، و التي لن تشفى ما لم تفتح، وتنظف بمطهر، لأنها إذا تركت بدون تنظيف ، تتورم وتتقرح ، وانه ليس بالامكان ان نقول أن الماضي قد عفى عليه الزمن ، لأنه سيعود و يطاردنا

وعليه، فالحوار عملية مجتمعية، تتضمن الاعتراف المتبادل بمعاناة الماضي، لمنع المزيد من الصراع ، عبر تغيير المواقف والسلوكيات المدمرة، إلى علاقات بناءة نحو السلام المستدام.. ومن هنا تأتي أهمية الحديث عن اختلالات الماضي ومواطن القصور، فــ أمة لا تقرأ التاريخ محكوم عليها بإعادته

تشكل الفترة التي سأتناولها – على حلقات – من تاريخ اثيوبيا، ما بين عام 1850م و حتى اليوم، وليس أشق على نفس كل متابع من استعراض عثرات و كبوات هذه السنوات، ولو جاز للمرء اختصارا لقلت ان “الثنائيات المتناقضة” أرهقت الاثيوبيين، فالقارئ سيلاحظ دونما جهد، قضايا على شاكلة الديمقراطية والديكتاتورية، الحرب والسلام، التنمية والتخلف، القوة القديمة و الحديثة، فكلما دانت دولة او اعتلى سدة الحكم نظام ، وإلا ألقت هذه الثنائيات بظلالها الكئيبة على دهاليزه، وباتت وجعا يكتوى به الشعب

قد تجسد هذه النظرة، خارطة الحياة السياسية منذ انشاء اثيوبيا الحديثة، بتفاصيلها المتشعبة، لهذا تأتي الدعوة عفوية للقارئ في التدثر بشيء من الصبر في متابعة سطورها ، وقد وددت زاهدا أن أسهم بجهد المقل في رصد مشاريع النخب الاثيوبية وقناعتهم التي عجزت على تحديد الصورة الدقيقة لنوع الحكم في البلاد

لا ازعم انني مؤرخ، لذا فالاستقراء ليس من شأني، بقدر ما يعنيني إبراز الحقائق بكامل هيئتها، ولتحقيق الدقة عمدت إلى تثبيتها بالمصادر، امتثال لشرف الموضوعية وقطعا لدابر أي مكابرة، واعتذر عن اقحام بعض المفردات الامهرية لاعتقادي أنها في مواقع تكون أوقع تعبيرا، والعذر موصول للذين تطرب مسامعهم اللغة العربية

من المتعارف عليه ان الإمبراطور “منيلك الثاني” هو من أسس اثيوبيا الحديثة بجغرافيتها الحالية، لكن بحسب “بهرو زودي” في كتابة : تاريخ إثيوبيا الحديثة، فان الامبراطور”تيدروس الثاني” هو المنظر الفكري والسياسي لهذا المشروع، وهو من وضع بذرته الأولى في خمسينيات القرن التاسع عشر

يقول “بهرو زودي” انه باعتلاء “تيدروس الثاني” الحكم، وضع نهاية لحقبة “عصر الامراء” التي امتدت 80 عاما، حيث تسببت الفوضى الإقطاعية السائدة حينها، في اضعاف الدولة الحبشية، وهو ما فتح شهية ( تيدروس الثاني) لتكوين إمبراطورية حديثة وقوية

لم يدم حكم “تيودروس” طويلا حيث توفى عام 1868 ، ولم يتم إنجاز أي من مهامه ، لكن إرثه و أفكاره ، ساعدت في إنشاء إمبراطورية أكبر مما كان يحلم به ، لكن ليس على يد خليفته الامبراطور “يوهانس” الذي ظل منشغلاً في الدفاع عن مملكته، من الغزاة الأجانب كالمصريين والإيطاليين والمهديين، بل على يد قوى جديدة صاعدة، انطلقت من منطقة (شيوا) والتي بالرغم من كونها منطقة هامشيًة لإثيوبيا التاريخية ، لكنها سطرت التغيير الكبير والعميق في جغرافية وديموغرافية الحبشة، بحلول مطلع القرن العشرين، حيث كانت بقيادة بقيادة (الامبراطور منيلك الثاني) الذي استفاد من الارتباك السياسي والإرهاق الاقتصادي والضعف العسكري للنخب الحاكمة في شمال و جنوب اثيوبيا

يقول “جون ماركاكيس” في كتابه: إثيوبيا: تشريح نظام الحكم التقليدي، ان مسألة توسع منيلك الثاني نحو الشمال، لمن تكن معضلة، فتلك المناطق ، شكلت لقرون جزءًا من النظام السياسي للحبشة، فضلا على ان شعوبها تشارك التقاليد المسيحية والسمات الثقافية

لكن التوسع جنوبا ، كان هو المعضلة الكبرى، حيث تعلق الامر بضم أراضٍ جديدة، وشعوب جديدة إلى الإمبراطورية الناشئة، وهو ما نتجت عنه عواقب سياسية واقتصادية، مدمرة ، ويرجع كثيرين الى ان التوجس بين الشمال والجنوب، بدأ من هذه الحقبة

يشير ماركاكيس ان أطروحة الامبراطور (تيدروس الثاني) التي سطرها في رسائله المنشورة في كتاب: إثيوبيا وتشريح نظام الحكم التقليدي.. كانت تتمثل في إنشاء دولة إمبراطورية حديثة، ذات نظام متعدد الأعراق، لكن الإمبراطورية التي أصبحت حقيقة بحلول عام 1900 استندت الى أطروحة مناهضة للعملية التي بدأها تيودروس، حيث تأسست بشروط غير متكافئة

و يشير “بهرو زودي” ان إنشاء دولة إمبراطورية من اللامساواة، مثلت أول الاختلالات التاريخية الفادحة للنظام البنيوي للحكم في اثيوبيا ، حيث حملت معها بذور الصراع الى المستقبل،وما زاد الطين بله – والتعبير لبهرو – ان النخبة في (شيوا) بقيادة منليك وخلفائه، اداروا الامبراطورية كإقطاعية شخصية، وعمدوا الى تقليص سلطة بقية النخب إلى مناصب أدنى

كمثال ، كان على النخب في تجراي، المنافسين تاريخياً ، أن يرضوا بان يكونوا شركاء صغار في الإمبراطورية الجديدة، اما نخبة الأورومو فكان وضعهم أسوأ بكثير، اذ كان عليهم تغيير لغتهم وثقافتهم، وان يرضوا بمكانة أقل بكثير من حجمهم الديمغرافي، اما الامهرا المنحدرين من وللو و غوجام و غوندر، فبالرغم ان المجموعات العرقية، كانت ترى فيهم مستفيدين من النظام الإمبراطوري، كونهم يتشاركون اللغة والدين والقيم الثقافية، لكن الواقع كان مخالفا تماما، حيث كانوا عرضة للتهميش السياسي اسوة بغيرهم من المجموعات العرقية

نكمل في الحلقة القادمة