في لحظة تاريخية تعكس نضج الرؤية التنموية لإثيوبيا، وجّه رئيس الوزراء الدكتور آبي أحمد دعوة صريحة إلى حكومتي مصر والسودان للمشاركة في افتتاح سد النهضة المزمع في سبتمبر المقبل، في خطوة تعبّر عن نية سياسية واضحة لتجاوز الخلافات وفتح صفحة جديدة من التعاون الإقليمي.
هذه الدعوة، التي انطلقت من قلب البرلمان الإثيوبي، ليست مجرد إجراء بروتوكولي، بل رسالة سياسية عميقة بأن السد لا ينبغي أن يُنظر إليه كأداة صراع، بل كبوابة تكامل تخدم مصالح شعوب حوض النيل كافة.
لم يكن حديث رئيس الوزراء مقتصرًا على السد فحسب، بل حمل بشائر عديدة تنبئ بمرحلة اقتصادية جديدة لإثيوبيا، قائمة على التصنيع، والاستثمار في الطاقة، والتنويع في مصادر الدخل القومي.
فمن الإعلان عن مصنع لإنتاج 600 ألف طن من الزجاج سنويًا، إلى التوسع في إنتاج الغاز، ومن النمو الملموس في قطاع السياحة إلى الارتفاع الكبير في إنتاج الذهب والزراعة، تبدو إثيوبيا وكأنها تسابق الزمن في بناء اقتصاد قوي ومتوازن.
وتأتي مبادرة “إثيوبيا تنتج” لتكرّس هذا التوجه، حيث سجّلت نمواً بنسبة 65%، فيما زاد الطلب على الطاقة في القطاع الصناعي بنسبة 40%، وهو ما يشير إلى حيوية هذا القطاع وديناميكيته. كما سجلت قطاعات أخرى مثل إنتاج الأسمنت والصلب قفزات مهمة، ما يؤكد أن البلاد تتجه فعلياً نحو تقليص الاعتماد على الواردات وتعزيز الإنتاج المحلي.
وفي مجال السياحة، نجحت إثيوبيا في استقطاب أكثر من 1.3 مليون سائح هذا العام، في تطور ملحوظ يعكس ثمار الاستثمار في البنية التحتية الثقافية والترفيهية، بدءًا من حدائق الوحدة والصداقة إلى القصر الوطني ومتحف العلوم.
أما الخطوط الجوية الإثيوبية، فقد أصبحت نموذجًا يحتذى بها في إفريقيا، بعد أن ارتفع عدد طائراتها إلى 180 طائرة، ووصلت وجهاتها الدولية إلى 136 دولة.
وما بين السد، والزجاج، والذهب، والغاز، والسياحة، والزراعة، تنسج إثيوبيا قصة صعود هادئة ولكن ثابتة، تستحق التقدير والدعم.
إن التحديات التي واجهت البلاد، من الضغوط السياسية الخارجية إلى التحديات الاقتصادية الداخلية، لم تُثنِها عن مواصلة السير نحو التقدم، بل زادتها إصرارًا على التحوّل من دولة متلقية للدعم إلى دولة منتجة.
إن الرسالة التي تحملها دعوة رئيس الوزراء لافتتاح سد النهضة، تتجاوز الطابع الاحتفالي، وتفتح الباب أمام مقاربة جديدة في إدارة ملفات المياه والتنمية في المنطقة.
إنها فرصة حقيقية لإعادة التفكير في مفهوم “المنفعة المشتركة” بدلاً من “التهديد المتبادل”، وللشروع في حوار بناء وشراكة استراتيجية بين دول حوض النيل.
إثيوبيا، اليوم، لا تدعو إلى المواجهة، بل إلى المشاركة، ولا تسعى إلى فرض أمر واقع، بل إلى واقع جديد يقوم على التعاون والتكامل.
إنها لحظة اختبار للجميع: إما أن نغتنمها لصنع مستقبل مشترك، أو نهدرها لنعود إلى دوائر الشك والخلاف.
فهل نجرؤ على اختيار الطريق الصحيح؟